ألوية الناصر صلاح الدين

قدم أبو ذر الغفاري إلى مكة باحثًا عن الدين الجديد، الذي ظهر بها، وكان ينوي مقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم، وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فاستضافه سيدنا علي ثــلاث ليال، قــال له بعــدها : ما أمــرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فأجابه أبو ذر بقوله : إن كتمت عليّ أخبرتك. وفي رواية : إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني أخبرك، قال : فإني أفعل، قال : بلغنا أنه خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال علي : أما إنك قد رشدت، وهذا وجهي إليه، أدخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط، كأني أصلح نعلي، وفي رواية : كأني أريق الماء، فامض أنت، فسار علي وأبو ذر خلفه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه و سلم(31).‏

من النص السابق تتبين عدة جوانب هامة، من أبرزها : ‏

أولاً : التأني والتريث في الحصول على المعلومة : ‏

لقد تأنى سيدنا أبو ذر الغفاري في السؤال عن الرسول صلى الله عليه و سلم، وكره أن يســـأل عنــه، لما يعرفـــه من كراهيــة قريش لكــل من يخاطب الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف، فلو سأل عنه، لعلمت به قريش، وبالتالي قد يناله من العذاب الشيء الكثير أو يطرد، ويخسر بالتالي الحصول على المعلومة، التي من أجلها حضر، وتحمل في سبيلها مصاعب ومشاق السفر.‏

ثانيًا : الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة : ‏

حين سأل سيدنا عليُّ أبا ذر عن أمره، وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره، بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي ذات الوقت أن يرشده، فهذا غاية في الاحتياط، وبذا يكون قد ضمن السرية والكتمان لأمره، وفي الوقت ذاته الحصول على المعلومة، التي يبحث عنها، وهذا ما تم بالفعل.‏

ثالثًا : التغطية الأمنية للتحرك : ‏

تم الاتفاق بين عليٍّ وأبي ذر على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى سيدنا علي من يترصدهم، أو يراقبهم، فهذه تغطية أمنية لتحركهم تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي، فيُعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ، قد يحدث أثناء التحرك.‏

سُقْنَا هذه الأمثلة، لنؤكد تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، بينما نجد في المقابل أن الحس الأمني لدى الكفار كان ضعيفًا.. ويمكن أن يلاحظ فشلهم هذا في عدة مواقف، منها : عدم معرفة المقر الخاص (دار الأرقم) للمسلمين، فلو كانت المراقبة اللصيقة متوفرة، لأمكن معرفة الدار عن طريق المتابعة، لأحد أفراد الدعوة، حتى يمكن من خلال مراقبته الوصول إلى الدار، ولكنهم فشلوا في ذلك. وكذلك عدم معرفة قريش، لكثير من الذين دخلوا في الإسلام حتى من قبل أقربائهم، فسيدنا عمر رضي الله عنه مثلاً، لم يكن يعلم بإسلام أخته وابن عمه، وهم أقرب الناس إليه. فهذا دليل أيضًا على عدم المراقبة اللصيقة حتى لأقرب الأقربين.‏

لقد كان الحس الأمني لدى أفراد قريش ضعيفًا، فمثلاً سيدنا عمر رضي الله عنه، لم ينتبه لنعيم بن عبد الله عندما أخذ منه المعلومة، ثم ضلله عن هدفه.. وكذلك والدة سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما، لم يكن لديها الحس، الذي يمكنها من التعرف على أن أم جميل مسلمة، وأنها تعلم بمكان النبي صلى الله عليه و سلم(32).. وكذلك لم تكن رقابة الكفار إلى الوافدين لمكة وتحركاتهم متوفرة في تلك الفترة، بدليل أن سيدنا أبا ذر رضي الله عنه جاء وجلس ثلاث ليال في الحرم، يبحث عن الرسول صلى الله عليه و سلم(33)، حتى أخذه سيدنا علي معه إلى منزله واستضافه عنده، ولم يكتشف أمره. ‏

وثمة سؤال لابد من الوقــوف عنــده، وهو مــا دام أن أهــل مكــة لا يهتمون بالجوانب الأمنية، فمن أين اكتسب الصحابة رضي الله عنهم هذا الجانب، وما هم سوى أفراد من ذلك المجتمع المكي؟‏

لعل الإجابة تكمن في أن هذا الجانب، كان من ضمن ما يتلقونه من النبي صلى الله عليه و سلم، وهذا ربما يعلل اختلاف التصرفات للصحابة بعد الإسلام.. ومما يؤكد تلقي الصحابة لهذه التربية الأمنية من النبي صلى الله عليه و سلم، الأحاديث التي تؤيد ذلك ومنها : (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) (34).‏

فيما سبق، أوردنا نماذج تعبر عن مدى توفر الحس الأمني لدى الصحابة رضي الله عنهم في بدء الدعوة، حيث تبين مدى تغلغل هذا الجانب في نفوسهم، حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم وتصرفاتهم منظمة ومدروسة.. ولهذا فما أحوجنا الآن لمثل الحس الذي كان عند الصحابة بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة والمعلومات الأمنية خاصة، تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر(35).‏

وما دام الأمر كذلك، فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم. ولابد أن يكون كلامنا موزونًا، فلا نلقي القول على عواهنه، فرب كلمة يقولها عابر سبيل في مقهى، أو سيارة أو نادي يتلقفها جاسوس، أو عميل تؤدي إلى نكبة قاصمة للظهر، وخسائر فادحة في الأرواح والأموال (36).‏

وعلى المسلمين الاهتمام بالحس الأمني، والتحدث عن ذلك في جميع مؤسساتهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وأن تكون التوعية عبر وسائل الإعلام المسموعة، والمقروءة، والمشاهدة، وعبر المؤسسات التعليمية على مختلف مراحلها.‏

كما لابد أن يُنَبَّه الناس إلى خطورة الإهمال، وتتم توعيتهم بالمواضيع التي لا يجوز أن يخوضوا فيها أمام العامة، حتى يدركوا مع من يتكلمون؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ ويحاطوا علمًا بأساليب، ووسائل الأعداء في الحصول على المعلومات، وتقدم لهم الأدلة الشرعية الدالة والآمرة بالتزام هذا الجانب، وتلك التي تتوعد من يفشي سر الأمة، وعقوبة ذلك في الدنيا والآخرة.. وبقليل من البذل والعمل، يمكن أن يتحول المجتمع المسلم كله، إلى حواس متقدمة، تعمل بدقة في خدمة الأمة وأهدافها.‏