ألوية الناصر صلاح الدين

من حين لآخر تصعد من جديد إمكانية الإفراج عن اليهودي الأميركي الذي تجسّس لصالح الكيان، في حين تنفي الولايات المتحدة ذلك، ولكي نعرف من هو جوناثان بولارد، الرجل الذي يرفض الأميركيّون إطلاق سراحه، نتحدث في هذا الموضوع عن قصة الجاسوس الصهيوني جوناثان بولارد.

أصبحت دعوات إطلاق سراح جوناثان بولارد مراسم تتكرّر. كلّما تطلّب من دولة الكيان إطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وفي كلّ مرة يزور رئيس حكومة الكيان واشنطن (وبالطبع أيضًا في الحالات النادرة التي يزور فيها رئيس أمريكي الكيان)، يذكّرنا بعض المسؤولين الصهاينة بأنّ الولايات المتحدة ما زالت محتفظة وترفض إطلاق سراح جوناثان بولارد.

ولد جوناثان جاي بولارد عام 1954 في ولاية تكساس، كان أبوه بروفيسورًا في علم الأحياء المجهري وأمّه ربّة منزل. في وقت لاحق انتقلت الأسرة إلى إنديانا. لم تكن عائلة بولارد في يوم من الأيام متديّنة جدًّا في إخلاصها لليهودية، ولكنّها حرصت على إبقاء اتصال لها باليهودية بل وبدولة الكيان. عام 1970، زار بولارد الكيان الصهيوني للمرة الأولى، في معسكر لدراسات العلوم.

في سنّ 25 قُبِل بولارد للاستخبارات البحرية الأمريكية، بعد أن تمّ رفض طلبه للانضمام إلى صفوف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (‏CIA‏)، لأنّ اختبارات جهاز الكشف عن الكذب الخاصة به كشفت عن وجود مشكلة في المصداقية. لم يعلم الضبّاط الذين قبِلوا بولارد للعمل في الاستخبارات البحرية شيئًا عن أنه رُفِض للانضمام إلى خدمة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (‏CIA‏). في تلك الفترة تقريبًا، كان هناك تباعد معيّن في العلاقات الصهيونية الأمريكية. على الرغم من الاتفاقات حول التعاون الاستخباراتي الواسع، فهم مسؤولون في الكيان أنّ الولايات المتحدة تمنعهم من الوصول إلى معلومات مهمّة حول أعدائها.

في الوقت الذي فهمت فيه دولة الكيان أنّ عليها تعزيز قبضتها الاستخباراتية في الولايات المتحدة، التقى بولارد عام 1984 مع أبيآم سيلع، وهو ضابط في سلاح الجو الصهيوني كان يمكث في الولايات المتحدة في إجازة دراسية. عرض بولارد على سيلاع المساعدة، وعلى مدى العام الذي مرّ منذ التقائهما نقلت بينهما وثائق كثيرة وذات قيمة. في كلّ يوم جمعة، كان يأتي بولارد إلى منزل خفيّ، وينقل الوثائق التي تمّ مسحها وإرسالها لإسرائيل. بهذه الطريقة تمّ نقل مئات الآلاف من الوثائق.

استخدمت دولة الكيان المعلومات التي نقلها بولارد كثيرًا. ومن بين تلك الأمور، فقد استخدمت هذه المعلومات لإعداد أسلحة دفاعية ضدّ أسلحة الدمار الشامل لدى البلاد العربية بل ولعمليات هجومية، وكانت أشهرها قصف مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في تشرين الأول عام 1985. في الوقت نفسه، بدأ رؤساء بولارد بالشكّ فيه، حيث عُثر في غرفته على وثائق غير متعلّقة بمجاله بشكل مباشر. بدأ وكلاء مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI ) بتعقّب بولارد.

حين فهم بولارد بأنّ الخناق يضيق حول عنقه، اتّصل بزوجته، آن، بسرعة وطلب منها باستخدام كلمات رمزية جمع الوثائق السرّية التي في منزلهما. "دخلت في توتّر كبير، لم أعرف ما ينبغي عليّ القيام به"، تحدّثت آن عن المحادثة الهاتفية مع بولارد. لقد خبّأت الوثائق داخل حقيبة، وقامت بوضعها في قبو شقّة مجاورة. بعد ذلك التقى الاثنان، وقرّرا الهرب معًا إلى سفارة الكيان في الولايات المتحدة.

ادّعى رونالد أوليب الذي كان أحد المحقّقين مع بولارد والذي ألّف كتاب "القبض على جوناثان بولارد"، في كتابه بأنّه حتّى وصوله إلى مدخل السفارة الإسرائيلية، لم يشكّ أحد أنّ بولارد يعمل لخدمة الاستخبارات الصهيونية. جرّم بولارد نفسه بكونه على صلة مع الكيان فقط لدى ذهابه المفاجئ للسفارة، والتي طُرد منها، وذلك باعتراف من تلقاء نفسه بعد اعتقاله.

طرد رجال السفارة الزوجين ولم يكونوا يعلمون بأنّ بولارد جاسوس، ولم يمكّنوهما من الدخول إلى السفارة. تمّ إلقاء القبض على الاثنين وقُدّما إلى المحاكمة. سلّم وزير الدفاع حينذاك، كاسبر وينبرجر، للمحكمة وثيقة من 46 صفحة تتضمّن تفاصيل الأضرار التي تسبّب بها الجاسوس. حُكم على بولارد بالسجن مدى الحياة، بينما حُكم على زوجته بـ 40 شهرًا في السجن، تطلّقت خلالها من جوناثان. خلال كلّ هذا الوقت، نفت دولة الكيان أيّ علاقة مع الجاسوس المهمّ الذي خدمها.

تمّ رفض استئناف بولارد في المحكمة. وخلال مدّة عقوبته، اكتشف بولارد من جديد قربه من الدين اليهودي وتاب. وفي هذا الوقت تعرّف على زوجته الثانية، إستر، التي تعمل حتّى اليوم من أجل إطلاق سراحه.

ولكن الكيان استمر بتجاهل بولارد، خوفاً من التسبّب بضرر آخر في علاقة الولايات المتحدة به، والتي تضرّرت على أيّة حال في القضية. بل إنّ التنظيمات اليهودية في الولايات المتحدة مثل إيباك قد خشيت من إصدار أي كلمة دعم لبولارد، خوفًا من أن يصوّرهم الأمر كخونة.

في عام 1998 فقط، اعترف الكيان بأنّ بولارد تصرّف كعميل لها. جاء في وثيقة رسميّة كتبها المستشار القضائي في مكتب رئيس الحكومة: "كان جوناثان بولارد وكيلا صهيونيا، وقد تعامل معه مسؤولون كبار في سلطة صهيونية مختصّة. وعلى ضوء هذه الحقيقة تعترف حكومة الإحتلال بالتزامها تجاهه وهي مستعدّة لتحمّل المسؤولية الكاملة المترتّبة على ذلك".

في الكنيست أيضًا، لم يكونوا متحمّسين في البداية لصالح بولارد. فقد وقّع على الالتماس الأول الذي دعا رئيس الولايات المتحدة رونالد ريجن إلى الإفراج عنه 23 عضو كنيست فقط. بالمقابل، فقد وقّع على الالتماس الأخير الذي تم تقديمه عام 2014 للرئيس أوباما 106 عضو كنيست، بما في ذلك قسم من أعضاء الكنيست العرب. طلب جميع رؤساء الحكومة الصهاينة منذ بداية سنوات التسعينات من رؤساء الولايات المتحدة الأمر بالإفراج عن بولارد، وتم رفض ذلك.

في السنوات الأخيرة، بدأت تصدر في الولايات المتحدة حيث اعتبر بولارد في البداية جاسوسًا خطرًا، أصوات تطالب بالإفراج عنه. قال وزيرا الخارجية السابقان جورج شولتس وهنري كيسنجر إنه يجب الإفراج عن بولارد، وكذلك الأمر نائب الرئيس السابق دان كويل. بل إنّ المرشّح الرئاسيّ جون ماكين، الذي كان على مدى سنوات من كبار المعارضين للإفراج عنه، عبّر عن دعمه لإطلاق سراح بولارد. ويأتي داعمو إطلاق سراح بولارد من صفوف الحزب الديمقراطي والجمهوري على حدّ سواء.

وكان التصريح الأكثر أهمية في هذا السياق من قبل رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (‏CIA‏) السابق، جيمس ولسي، الذي قال بأنّ عدم الإفراج عن بولارد نابع من معاداة السامية. حسب تعبيره، فإنّ أفعال بولارد خطرة بالفعل، ولكن بعد مرور نحو ثلاثة عقود، حان الوقت لإطلاق سراحه. وأضاف أنّ هناك جواسيس قاموا بجرائم مشابهة لصالح دول حليفة للولايات المتحدة، مثل جنوب كوريا واليونان، عوقبوا بأقلّ من ذلك.

لا يوجد حتى اليوم اتفاق بشأن الدافع الذي دفع بولارد للقيام بما قام به. من جهة، يظهره داعموه كمؤيّد متحمّس لإسرائيل، والذي لم يكن بإمكانه الوقوف مكتوف الأيدي بإزاء الرفض الأمريكي في نقل المعلومات الاستخباراتية المهمّة للكيان. وبالمقابل، يدّعي آخرون أن الطمع هو الذي حرّكه. ادّعت إحدى المحقّقات مع بولارد، وهي ليديا جايتزورك، في الماضي أنّ بولارد اعترف بنقله للمعلومات ليس فقط للكيان، وإنّما لجنوب إفريقيا وربّما لأستراليا أيضًا. حسب هذه الادّعاءات، فإنّ محفز بولارد قد كان المغامرة، وليس الأيديولوجية.