ألوية الناصر صلاح الدين

تعريف الوضوء:

الوضوء: من الوضاءة: وهو الحسن والنظافة والبهجة، كما يقال: رجل وضيء؛ أي: حسن الهيئة.

قال أبو حاتم: توضأت للصلاة وُضُوءًا، وتطهرت طُهُورًا، أتوضأ، توضؤًا، وهي الحسن. اهـ.

والوُضُوءُ بالضم: الفعل، وبالفتح: الوَضُوء: هو الماء المعد له، كما حكاه أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ[1]، فقال: الوَقود: بالفتح: الحطب، والوُقُود بالضم: الاتقاد، وهو الفعل، ومثل ذلك الوَضُوء: هو الماء، والوُضُوء: هو الفعل.

 

وقيل: الوُضُوء بالضم: هو المصدر.

وقيل: هما لغتان بمعنى واحد: يعني الفتح والضم.

ولا تقل: توضيت بالياء بدل الهمز، قاله غير واحد.

قال الجوهري: وبعضهم يقوله، وهي لُغيَّة أو لثغة.

وذكر قاسم عن الحسن أنه قال يومًا: توضيت بالياء، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل، وفيهم نشأت.

والميضأة بالكسر والقصر: الموضع الذي يتوضأ فيه[2].

 

الوضوء في اصطلاح الفقهاء:

تعريف الحنفية:

جاء في "البحر الرائق": الوضوء في الاصطلاح الشرعي: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس[3].

 

وقال الكاساني: الوضوء: اسم للغسل والمسح، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، فأمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس[4].

 

تعريف المالكية:

الوضوء: هو غسل ومسح في أعضاء مخصوصة لرفع حدث[5].

 

تعريف الشافعية:

الوضوء: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحًا بنية[6].

 

تعريف الحنابلة:

قال البهوتي: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة[7].

 

وهذه التعريفات متقاربة، وتتفق على تعريف الوضوء بأنه غسل ومسح لأعضاء مخصوصة، وبعضهم يذكر النية أو قصد رفع الحدث في التعريف؛ لأن النية عنده شرط، وهو مذهب الجمهور كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبعضهم لا يذكرها كالحنفية؛ لأن النية عندهم سنة، وليست فرضًا، وبعضهم ينص بأن غسل الأعضاء يجب أن يكون على صفة مخصوصة؛ لأن الترتيب عنده والموالاة فرض، وبعضهم لا يذكرها؛ لأنه يخالف في كونها فرضًا في الوضوء، وسيأتي إن شاء الله بيان الراجح من هذه الأمور في مكانها.

 

 

•     •      •       •

 

المبحث الثاني

في فضل الوضوء

 

ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة، نذكر منها:

الحديث الأول:

(772-1) روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن زيدًا حدثه، أن أبا سلام حدثه، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها، أو موبقها))[8].

 

الحديث الثاني:

(773-2) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبدالله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنسًا إلى الشام وأثنى عليه فضلاً وخيرًا - قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرَّتْ خطايا وجهه وفِيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجَّده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدتْه أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة، انظر ما تقول، في مقام واحد يُعطى هذا الرجلُ، فقال عمرو: يا أبا أمامة، لقد كبِرتْ سني، ورقَّ عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثًا - حتى عد سبع مرات - ما حدثت به أبدًا، ولكني سمعته أكثر من ذلك[9].

 

الحديث الثالث:

(774-3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ثوبان، حدثني حسان بن عطية، أن أبا كبشة السلولي حدثه، أنه سمع ثوبان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا وقاربوا واعملوا وخيروا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))[10][إسناد حسن إن شاء الله، والحديث صحيح] [11].

 

الحديث الرابع:

(775-4) ما رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خلف - يعني ابن خليفة - عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ، أنتم هاهنا؟ لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم -يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء))[12].

 

الحديث الخامس:

(776-5) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ، فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعَون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل[13].

 

الحديث السادس:

(777-6) ما رواه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة - يعني ابن يزيد - عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر ح وحدثني أبو عثمان عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، مرفوعًا، وفيه: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدالله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء))[14].

 

•     •      •       •

 

المبحث الثالث

فـي حكم الوضوء

 

يختلف حكم الوضوء من عبادة لأخرى، فقد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون محرَّمًا.

 

مثال الوضوء الواجب:

أما الوضوء الواجب (أي: الفرض) [15]، فإنه يجب على المحدث إذا أراد الصلاة، فرضًا كانت أو نفلاً، والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.

 

أما الكتاب فقال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[16] الآية.

 

(778-7) وأما السنة، فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ))[17].

 

وأما الإجماع، فقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد المرء إليها السبيل[18].

 

وسئل ابن تيمية: عما تجب له الطهارتان: الغسل والوضوء؟

فأجاب: ذلك واجب للصلاة بالكتاب والسنة والإجماع، فرضها ونفلها، واختلف في الطواف ومس المصحف، واختلف أيضًا في سجود التلاوة، وصلاة الجنازة هل تدخل في مسمى الصلاة التي تجب لها الطهارة؟ وأما الاعتكاف فما علمت أحدًا قال: إنه يجب له الوضوء[19].

 

مثال الوضوء المندوب:

وأما الوضوء المندوب، فأمثلته كثيرة جدًّا، أذكر منها على سبيل المثال الوضوء للذِّكر، والوضوء للنوم، والبقاء على طهارة.

 

فالدليل على مشروعية الوضوء للذكر:

(779-8) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عميرًا مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبدالله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم[20].

 

(780-9) وروى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان، عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: ((إني كرهت أن أذكر الله - عزَّ وجلَّ - إلا على طهر، أو قال: على طهارة))[21][إسناده صحيح] [22].

 

والدليل على مشروعية الوضوء للنوم:

(781-10) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبدالله، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به))، الحديث[23].

 

وأما الدليل على مشروعية البقاء على طهارة:

(782-11) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني حسين بن واقد، قال: حدثني عبدالله بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت في الجنة خشخشة أمامي، فقلت: من هذا؟ قالوا: بلال، فأخبره، قال: بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ قال: يا رسول الله ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله علي ركعتين أصليهما. قال: بها[24]. [إسناده حسن والحديث صحيح] [25].

 

قال الحافظ: وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة[26].

 

(783-12) وروى البخاري، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.

 

وترجم له البخاري: باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار[27].

 

مثال الوضوء المكروه:

يمثل بعض الفقهاء للوضوء المكروه ما إذا جدد الوضوء بعد فراغه منه، وقبل استعماله بعبادة مشروعة.

 

فقيلإن الوضوء على الوضوء لا يكون قربة إلا إذا اختلف المجلس، وأما إذا اتحد المجلس فلا يكون قربة، وهو قول في مذهب الحنفية[28].

 

وقيلأن يفعل فيه عبادة يستحب لها الوضوء؛ لأنه إذا لم يفعل به ذلك كان إسرافًا محضًا، ذكره ابن عابدين من الحنفية[29]، وهو مذهب الحنابلة[30].

 

وقد ذكر ابن تيمية أن من توضأ قبل الوقت لا يعيد الوضوء بعد دخول الوقت، ولا يستحب لمثل هذا تجديد الوضوء[31].

 

وقيل: إن صلى بالوضوء فرضًا استحب له الوضوء، وإلا فلا، وهو مذهب المالكية[32]، ووجه في مذهب الشافعية كما سيأتي بيانه.

 

وقال النووي من الشافعية: اتفق أصحابنا على استحباب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على وضوء، ثم يتوضأ من غير أن يحدث. ومتى يستحب؟ فيه خمسة أوجه:

أصحها: إن صلى بالوضوء الأول فرضًا أو نفلاً، وبه قطع البغوي.

والثاني: إن صلى فرضًا استحب، وإلا فلا، وبه قطع الفوراني.

والثالثيستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا، ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري، في باب الماء المستعمل، واختاره.

والرابع: إن صلى بالأول، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق.

والخامسيستحب التجديد، ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئًا أصلاً، حكاه إمام الحرمين، قال: وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة.

 

قال النووي: وهذا الوجه غريب جدًّا، وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئًا. قال المتولي والروياني: وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد. قالا: ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره، والله أعلم، اهـ كلام النووي[33].

 

دليل من قال: لا يشرع التجديد قبل استعماله بعبادة مشروعة:

الدليل الأول: النهي عن الزيادة على الثلاث:

(784-13) فقد روى أحمد، قال: ثنا يعلى، ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم[34].

[رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، فهو حسن عند من يحسن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده][35].

 

الدليل الثاني:

أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه جدَّد الوضوء بعد فراغه مباشرة من الوضوء الأول.

 

دليل من قال بالتجديد بعد الفاصل الطويل:

(785-14) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل، فبال، ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة؟ قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئًا[36].

 

فالظاهر أنه نقض الوضوء قبل وصوله مزدلفة بقليل، ثم توضأ، فيبعد أن يكون أحدث حدثًا آخر حين وصل مزدلفة، إلا أن يقال: فيه دليل لمن قال: يشرع التجديد إذا فعل به عبادة يشرع لها الوضوء كالذكر، والتلبية من الذكر، فالله أعلم.

 

الوضوء المحرم:

مثَّل له الفقهاء بالماء المغصوب، فإذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟

 

اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية[37]، والمالكية[38]، والشافعية[39].

وقيللا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة[40].

وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة[41]، وهو اختيار ابن حزم[42].

 

وقد ذُكِرَت أدلة كل قول في كتاب المياه[43].

 

الوضوء المباح:

مثل له المالكية بالوضوء للتبرد، والوضوء للدخول على السلطان[44].

 

والذي يظهر لي: أن الوضوء لا يكون مباحًا، وذلك أنه عبادة مطلوب فعلها، فإن فعلها امتثالاً كان مأجورًا عليها، وهذا يخرجها عن حد المباح؛ لأن المباح يستوي فيه الفعل والترك، والله أعلم.

 

فهذه أحكام التكاليف الخمسة، الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح، والله أعلم.

 

•     •      •       •

 

 

المبحث الرابع

متى شـرع الوضوء

 

من المعلوم أن الصلاة فرضت بمكة، فهل شرع الوضوء معها بمكة، أو أن الوضوء شرع بالمدينة حين نزلت آية المائدة، وهي مدنية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...﴾[45].

 

فقيل: إن الوضوء فرض بمكة، ونزوله في آية المائدة تثبيت لهذا الحكم، لا أكثر، وهذا اختيار ابن عابدين من الحنفية[46].

وقيل: إن فرض الوضوء إنما شرع بالمدينة، وكان الوضوء بمكة سُنَّة[47].

وقيل: إن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة، وهو اختيار ابن حزم[48].

 

قال ابن حجر: وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبدالبر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم.

 

وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: ائتوني بوضوء، فتوضأ. الحديث.

 

قال الحافظ: وهذا يصلح ردًّا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذٍ، وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبًا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة، عنه، أن جبريل علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضًا، لكن قال: عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشد بن سعد عن عقيل، عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولاً، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة[49].

 

 

•     •      •       •

 

 

المبحث الخامس

هل الوضوء في شريعة من قبلنا؟

 

ذهب الجمهور إلى أن الوضوء كان في شريعة من قبلنا، وإنما الغرة والتحجيل فقط مما خص الله به هذه الأمة[50].

 

وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة، اختاره بعض الفقهاء[51].

وقيل: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم[52].

 

دليل من قال بعدم الخصوصية:

الدليل الأول:

(786-15) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هاجر إبراهيمُ بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فأرسلَ إليه أن أرسلْ إلي بها، فأرسل بها، فقام إليها فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي الكافر، فغط حتى ركض برجله))[53].

 

الدليل الثاني:

(787-16) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان رجل في بني إسرائيل يقال له: جريج، يصلي، فجاءتْه أمُّه فدعته، فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي؟ ثم أتته فقالت: اللهم لا تُمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فقالت امرأة: لأفتننَّ جريجًا، فتعرضتْ له، فكلمته، فأبى، فأتت راعيًا فأمكنتْه من نفسها، فولدت غلامًا، فقالت: هو من جريج، فأتَوه وكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين))[54].

 

دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة:

(788-17) ما رواه البخاري، حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعَون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل[55].

 

(789-18) ورواه مسلم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة مرفوعًا، وفيه: لكم سيما ليست لأحد من الأمم؛ تردون عليَّ غرًّا محجلين من أثر الوضوء[56].

 

وأجيب:

بأن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغر والتحجيل، لا أصل الوضوء؛ ولذلك قال: سيما ليست لأحد غيركم، دليل أن هذا ما اختصت به الأمة، وليس الوضوء، والله أعلم.

 

دليل من قال: الوضوء من خصائص هذه الأمة إلا الأنبياء:

(790-19) روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من أراد أن يضاعف له الأجر مرتين، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي[57][إسناده ضعيف جدًّا][58].

 

الراجح من الخلاف:

بعد استعراض الأدلة، نجد أن القائلين بأن هذا الوضوء كان في شريعة من قبلنا أقوى دليلاً من غيره، وأن الغرة والتحجيل جاء ما يدل على أنهما من خصائص هذه الأمة، ولا يلزم من هذا أن يكون الوضوء كله من خصائص هذه الأمة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن التيمم من خصائص هذه الأمة، فهذا يدل على أن الوضوء ليس من خصائصها، والله أعلم.