ألوية الناصر صلاح الدين

الجهاد من أجل الطاعات، وأفضل القُرُبَات، فقد جاء الحث عليه في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لأن الجهاد مما يحفظ الله به الإسلام والمسلمين، وهو ذروة سنام الإسلام، والجهاد عبادة من العبادات وكل عبادة لا تصح إلا إذا وجد شروطها وأسبابها، وانتفت موانعها.
الجهاد له ضوابط
ولهذا فقد ضبط أهل السنة والجماعة الجهاد بضوابط مهمة تميزوا بها عن غيرهم، والجهاد ليس غاية في نفسه، وإنما هو وسيلة لتحقيق غاية عظمى وهي أعلاء كلمة الله -عز وجل-، وما دام الجهاد وفق الضوابط الشرعية لأهل السنة المستمدة من الكتاب والسنة فهو جهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، فإن خرج عن هذه الضوابط فقد خرج عن أن يكون جهادًا في سبيل الله.
الجهاد عام وخاص
المعنى العام للجهاد
الجهاد كما تدل عليه النصوص الشرعية له معنى عام وله معنى خاص، أما المعنى العام فيشمل: العمل بالإسلام، والدعوة إليه، والدفاع عنه، وإعزازه بكل ممكن. هذا هو المعنى العام للجهاد.
أنواع الجهاد بمعناه العام 
ذكر أهل العلم أن الجهاد بمعناه العام يتنوع إلى أنواع وهي: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد أهل الأهواء والبدع، وجهاد الكفار والمنافقين. وكل نوع من أنواع الجهاد له مراتب ذكرها أهل العلم.
جهاد النفس:
جهاد النفس هو تعلم شرع الله، العمل به، والدعوة إليه، والصبر على ذلك، فالعلم هو معرفة الْهَدْى بدليله، أن يعرف العبد ربه، ونبيه، ودين الإسلام بالأدلة، وأن يعمل بشرائع الدين، فيمتثل الأمر، ويجتنب النهي، وهو مقدمة لبقية أنواع الجهاد الأخرى.
جهاد أهل الأهواء والبدع: 
يكون بإنكار المنكر، بالمراتب التي جاءت في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، َذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(9 ) فيختلف الحكم باختلاف حال الشخص الذي يُنْكِرُ المنكر، من ناحية العلم والمعرفة بأحوال المدعو، ويختلف أيضا باختلاف حال المدعو، فقد يكون الإنكار فرضَ عين، وقد يكون فرضَ كفاية، وقد يكون مُسْتَحَبًّا، على حسب ما يقتضيه الحال، هذا هو جهاد أهل الأهواء وأهل البدع والمعاصي والمنكرات.
جهاد الشيطان
يكون جهاد الشيطان بدفع ما يلقيه إلى العبد من الشكوك والإرادات الفاسدة، ومن الشهوات والشبهات، وهذا يكون بالعلم النافع، والعمل الصالح، والصبر عن الوقوع في المعاصي، هذا نوع من الجهاد، وحكم هذا النوع -أعني جهاد الشيطان-، وكذلك جهاد النفس: فرض عين على المكلف من حين يكلف إلى أن يموت كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [سورة الحجر: الآية 99].
جهاد الكفار والمنافقين
هناك نوع آخر من الجهاد وهو جهاد الكفار والمنافقين، وهو على مراتب:جهادهم بالقلب،واللسان،والمال،والنفس،هو يتنوع أنواعا، وحكمه يختلف باختلاف الأحوال التي تقترن به.
المعنى الخاص للجهاد: 
المعنى الخاص للجهاد يُعَرِّفُهُ الفقهاء -رحمهم الله- بأنه: قتال مسلم كافرًا، غير ذي عهد، بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاءً لكلمة الله -سبحانه وتعالى- .
هذا النوع من الجهاد ينقسم إلى نوعين: 1- جهاد طلب، 2-جهاد دفع.
ذكر أهل العلم لهذا النوع من الجهاد ضوابط شرعية ينبغي مراعاتها لتحقيق المعنى المرجو من الجهاد، لأن الجهاد ليس غاية في نفسه، وإنما هو وسيلة لتحقيق غاية، وهي: إعلاء كلمة الله، فلما جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»( 10 ).
الضوابط الشرعية لجهاد الطلب
فجهاد الكفار والمنافقين في جهاد الطلب يحتاج إلى ضوابط شرعية، حدد أهل العلم -رحمهم الله- ضوابط خمسة بالنسبة تتعلق بالمجاهد المسلم، وضوابط خمسة تتعلق بالمقاتل الكافر.
الضوابط المتعلقة بالمجاهد المسلم إجمالا:
بالنسبة لما يتعلق بالمجاهد المسلم نذكر الضوابط الخمسة إجمالا، وهي:
الأول: الإخلاص لله -عز وجل- أي: أن يقصد المجاهد بجهاده إعلاء كلمة الله -سبحانه وتعالى-.
الثاني: القدرة على القتال، وكسر شوكة العدو.
الثالث: ألا يترتب على القتال مفسدة أعظم من مفسدة تركه، لأن ترك الجهاد يعتبر مفسدة، لكن إذا كان يترتب على الدخول مفسدة أعظم تلحق بالإسلام أو بالمسلمين، فإن الجهاد يترك في هذا الوقت وفي هذا الحال.
الرابع: أن يكون الجهاد بأمر ولي الأمر المسلم.
الخامس:أن يكون تحت راية شرعية، وقيادة شرعية تعلن الجهاد في سبيل الله،من أجل إعلاء كلمة الله -سبحانه وتعالى- .
الضوابط المتعلقة بالمقَاتَل الكافر إجمالا:
أما بالنسبة للمقاتل الكافر، فقد ذكر أهل العلم -رحمهم الله- ضوابط وشروطًا نذكرها إجمالا هي:
الأول: ألا يكون الكافر المقاتَل ذميًّا، والذمي من كان من الكفار يقيم في ديار المسلمين، وتحت قهر المسلمين، وولاية المسلمين.
الثاني: ألا يكون الكافر المقاتَل معاهدًا، والمعاهد: من كان بينه وبين المسلمين عهد، وقام صلح بينه وبين المسلمين، والصلح من صلاحيات ولي الأمر المسلم، فهو الذي يقوم بذلك، وهو الذي يتولى أمره، لأنه يتعلق بالمصالح العامة.
الثالث: ألا يكون الكافر المقاتَل مُسْتَأْمَنًا، والمستأمن: من كان من أهل الحرب دخل ديار المسلمين بأمان، وسواء أكان هذا الأمان من ولي الأمر المسلم، أو من آحاد المسلمين، فإنه إذا دخل بلاد المسلمين بأمان فلا يجوز التعرض له حتى يعود إلى دار الحرب التي جاء منها.
الرابع: أن يكون الكفار قد بلغتهم الدعوة، ودُعوا إلى الإسلام قبل القتال، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي قواد جيشه بأن يدعو الناس إلى الإسلام، فإن أبوا دعاهم إلى الجزية، فإن أبوا استعانوا بالله وقاتلونهم.
الخامس: أن يكون المقاتَل من أهل القتال، بألا يكون: امرأة، ولا صبيًّا، ولا أجيرًا، ولا شيخًا كبيرا هَرَمًا، ولا من انقطع عن الناس وترك القتال، إلا أن يشارك هؤلاء بالقتال بالقول أو بالفعل.
وأن يكون الجهاد بين الكفار والمسلمين كما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزمن الصحابة -رضي الله عنهم- بعده بأن يكون بالإعلان من الطرفين، وألا يكون بالاغتيالات، ولا بالتفجيرات ، وإنما يكون قتالا معلومة فيه الراية.
وهناك مسائل أخرى لها أحكامها الخاصة ذكرها الفقهاء -رحمهم الله- في حال نشوب القتال، واحتدام القتال.
ضوابط جهاد الطلب تفصيلا:
الضوابط العشرة لجهاد الطلب نجدها في كتب الفقه، وشروح الحديث، أخذوها من النصوص الشرعية التي دلت على هذه الضوابط :
ضوابط جهاد الطلب المتعلقة بالمجاهد المسلم تفصيلا:
الأول: الإخلاص لله، وهذا شرط في العبادات كلها قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [سورة البينة: الآية 5]، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [سورة الزمر: الآية 2]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ( 11 ).
الثاني: القدرة على القتال، والقدرة أصل في تكاليف الإسلام، فالقُدْرَةُ مناط التكليف، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط، وإلا سقط عن المسلمين الجهاد كسائر الواجبات، لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة، لقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سورة التغابن: الآية 16]، ولقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [سورة البقرة: الآية 286].
ولذا حث الشَّارِعُ على الاستعداد للجهاد بالإعداد له بقوة قبل القتال، فإن لم تكن هناك قوة فلا جهاد ولا قتال، إلا أن ينزل العدو بأرض المسلمين قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [سورة الأنفال: الآية 60]، فأيما قوة لدى المسلمين لا يرهبها العدو ويخافها فليست قوة شرعًا، وضابط القوة البشرية: أن يكون عدد المقاتلين الكفار ضعفي عدد المسلمين فأقل، فإن زاد على الضعف لم يجب على المسلمين دخول المعركة، وهذا الشرط خاص بجهاد الطلب، أما في جهاد الدفع فلا يشترط فيه ذلك.
ينبغي التنبيه على أهمية فهم كلام أهل العلم على وفق مرادهم، وأن يكون على مقتضى ما يدل عليه الدليل، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره من أهل العلم: “وَأَمَّا قِتَالُ الدَّفْعِ فَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالدِّينِ، فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا، فَالْعَدُوُّ الصَّائِلُ الَّذِي يُفْسِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا شَيْءَ أَوْجَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ دَفْعِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَرْطٌ، بَلْ يُدْفَعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. اهـ. ( 12 ) مقصوده ومقصود العلماء: أنه لا يشترط له شرط، أي الشروط التي تشترط في من يجب عليه الجهاد، بأن يكون المطالب به بالغًا عاقلًا حرًّا ذكرًا، فهذه الشروط لا تشترط في جهاد الدفع، لأنه يدفع بحسب الإمكان.
يبقى شرط مهم إذا لم يوجد سقط عنهم الجهاد، وهو: القدرة على صد العدو وكسر شوكته، لذا قال شيخ الإسلام: “بل يدفع بحسب الإمكان” أي: بحسب القدرة، فتبقى القوة والقدرة على صد العدو شرطا حتى في جهاد الدفع، يدل على ذلك حديث النَّوَّاسِ بن سَمْعَانَ -رضي الله عنه- في قصة قتل عيسى -عليه السلام- للدجال قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ ( 13 )عِبَادِي إِلَى الطُّورِ وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ»( 14 )، وجه الدلالة من الحديث أنه لما كانت قوة عيسى -عليه السلام- ضعيفة بالنسبة إلى يأجوج ومأجوج أمره الله ألا يقاتلهم، ولا يجاهدهم، فدل هذا على أن القدرة شرط.
الثالث: ألا يترتب على قتال العدو مفسدة أعظم من مفسدة ترك القتال، قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: إذا زاد الكفار على الضعف، ورُجِيَ الظفر وغلب على ظننا إن ثبتنا استحب لنا الثبات، وإن غلب على ظننا الهلاك بلا نكاية بالعدو وجب علينا الفرار لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [سورة البقرة: الآية 195]، أو بنكاية فيهم استحب لنا الفرار.
فلا يجب على المسلمين الثبات في مثل هذه الحالة التي يخشى عليهم فيها الهلاك، بل قال ابن جزي المالكي: “وإن علم المسلمون أنهم مقتولون فالانصراف أولى. وقال أبو المعالي الشافعي الجويني: لا خلاف في ذلك”( 15 ). يعني: لا خلاف بين الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
الرابع:إذن الإمام، أهل السنة والجماعة متفقون على أن أمر الجهاد موكول للإمام المسلم،ومن صلاحياته،وهو الذي ينادي به دون غيره، ويكون تحت رايته إما بقيادته أو بمن ينيبه،ويجب على الرعية طاعته في ذلك،لذلك يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: “والغزو ماضٍ مع الأمراء إلى يوم القيامة،البرِّ والفاجرِّ”( 16).
ويقول الطحاوي الحنفي: “والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر المسلمين برهم وفاجرهم إلى أن تقوم الساعة”. ( 17)
ويقول الموفق ابن قدامة: “وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ “.( 18 )
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وَيَرَوْنَ إقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ،أَبْرَارًا كَانُوا، أَوْ فُجَّارًا”.( 19)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمه الله تعالى-: “واستمر العمل على هذا -يعني على هذا الأمر- بين علماء الأمة من سادات الأمة والأئمة، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام برًا أو فاجرًا كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد”.
الخامس: أن يكون القتال تحت راية شرعية، قيادة شرعية تنظمه، فالجهاد لا يصلح بدون قيادة ولا راية واضحة ومعلومة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ»( 20 )، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»( 21 ).
قد يقول قائل من الإمام الذي تجب طاعته؟ وقد ذكر أهل العلم ذلك عند تفرق المسلمين واختلافهم إلى دول، مثل ما كان في أزمنة ماضية، ومثل ما نحن فيه اليوم.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: “فالأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يُعرف أن أحدًا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم” . اهـ. ( 22 )
وذكر مثل هذا الكلام الإمام الصنعاني، وكذلك الإمام الشوكاني، فإذا كان المسلم في بلد مسلم حاكمه مسلم، وانعقد الأمر له فإن طاعته في الجهاد واجبة، ولا يخرج المسلم إلى ساحات الجهاد إلا بإذنه، لكي لا يترتب على ذلك مفاسد تلحق بالإسلام والمسلمين، لاسيما في هذا العصر، فما يخرج الشخص من بلده الذي له فيه بيعة وطاعة إلى بلد آخر، ولو أراد أن يطلب العدو فخروجه من بلده الذي له حاكم مسلم، وله بيعة، وله طاعة تحتاج الإذن في ذلك.
هناك ضوابط أخرى ذكرها أهل العلم، ومنها: إذن الوالدين، وكذلك إذن الغريم إذا كان الجهاد غير متعين، فلابد من إذن الوالدين، لأن الرجل الذي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الجهاد قال له: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».( 23 )
كذلك من كان عليه دين لشخص، فإنه يحتاج أن يستأذن من غريمه قبل أن يخرج إلى الجهاد المشروع الذي توفرت فيه الضوابط التي ذكرها أهل العلم.
ضوابط جهاد الطلب المتعلقة بالمقاتل الكافر تفصيلا:
الأول: ألا يكون الكافر المقاتل ذميًّا، والذمي هو: من يقيم في ديار المسلمين وله ذمة مؤبدة.
الثاني : ألا يكون معاهدًا، والمعاهد هو: من صالحه الإمام على ترك القتال.
الثالث : ألا يكون مستأمنًا، وهو: من قدم على بلاد المسلمين بأمان، بتأشيرة دخول أو غيرها، مثل السفراء، والأُجراء، ومن دخل لزيارة، أو طلب، أو نحو ذلك.
الرابع: وأن يكون المقاتل من أهل القتال.
الخامس: أن يكون القتال بمقابلة الكفار في المعارك، وليس بالتفجيرات، والاغتيالات والانتحارات التي تجر على المسلمين بلاء وفتنة ومفاسد عظيمة.
الدليل على هذه الضوابط التي تتعلق بالمقاتل الكافر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»( 24 )، وقد ذكر أهل العلم في معنى هذا الحديث : أن الذمي، والمستأمن، والمعاهد كلهم يدخلون في الحديث.
مراحل تشريع الجهاد
إن تشريع الجهاد مر بمراحل أربعة:
المرحلة الأولى: الكف عن القتال، وهي أطول المراحل، مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد، ولم يؤمر بالقتال، إنما كان يؤمر بجهاد الدعوة، والحجة، والبيان، قال الله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [سورة الحجر: الآية 94]، وقال سبحانه: ﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا﴾ [سورة التغابن: الآية 14]، وقال سبحانه: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [سورة البقرة: الآية 109] .
المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال من غير أمر به، كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [سورة الحجج: الآية 39].
المرحلة الثالثة: مرحلة قتال من قاتل المسلمين، والكف عمن لم يقاتلهم قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [سورة البقرة: الآية 190].
المرحلة الرابعة: مرحلة قتال كل كافر يدعو إلى الكفر، أو يمنع من الدعو إلى الله -سبحانه وتعالى- حتى يسلم أو حتى يعطي الجزية قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [سورة التوبة: الآية 29] وهذه المرحلة قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما تكونت الدولة الإسلامية، وتكون الجيش، وأعد المسلمون العدة الكافية لملاقاة الأعداء، عدة العتاد بعد عدة الإيمان بالله -سبحانه وتعالى-.
هذه المراحل ليس شيء منها منسوخا، وإنما تتنزل على أحوال المسلمين قوة وضعفا، كما ذكر المحققون من أهل العلم كما قال شيخ الإسلام بعدما ذكر مراحل الجهاد الأربعة: “من كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآيات الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون” ( 25 ).
مقاصد الجهاد
إن الجهاد لم يشرع لذاته، وإنما شرع لغيره، لأن المقصود هو إعلاء كلمة الله -سبحانه وتعالى-، فإذا حصل هذا المقصود بغير قتال فلا يصار إلى القتال كما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [سورة الأنفال: الآية 39]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».( 26 )
من أهداف الجهاد ومقاصده: نصرة المظلومين قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [سورة النساء: الآية 75].
ومن مقاصده: درء العدوان وحفظ الإسلام، قال تعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [سورة البقرة: الآية 194].
يقول بعض الفقهاء رحمهم الله في بعض عباراتهم التي تؤكد أن الجهاد ليس مقصودا لذاته وإنما مقصود لغيره بعدما ذكر الفقهاء -رحمهم الله- يقول ابن دقيق العيد، بعدما ذكر المقصود من الجهاد هو إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وإعلاء الدين ونشره، وإخماد الكفر ودحضه قال : “ففضيلته بحسب فضيلة ذلك يعني بحسب ما يتحقق من هذه المعاني”.
وقال الشيخ عبد الغني المقدسي: “الجهاد فرض كفاية، لأنه لم يفرض بعينه إذ هو فساد في نفسه، أي للأبدان، وإنما فُرِضَ لإعزاز دين الله، ورفع الفساد عن العباد، وكل ما هو كذلك فهو فرض كفاية، إذا حصل المقصود بالبعض”.
ويقول الفقيه الشربيني: ” وَوُجُوبُ الْجِهَادِ وُجُوبُ الْوَسَائِلِ لَا الْمَقَاصِدِ، إذَا الْمَقْصُودُ بِالْقِتَالِ إنَّمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَمَا سِوَاهَا مِنْ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا قَتْلُ الْكُفَّارِ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْهِدَايَةِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِغَيْرِ جِهَادٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ ” ( 27 )
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى- لما ذكر معاني الجهاد، وذكر الله تعالى المقصود من الجهاد في سبيله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن يكون الدين كله لله تعالى، فيظهر دين الله تعالى على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، يقول -رحمه الله-: فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.