ألوية الناصر صلاح الدين

رمضان.. مدرسة ولصوص بقلم : عبد العزيز كحيل

الشهر المعظَّم مدرسة يتخرَّج منها الربَّانيون الأتقياء الأَبْرار، ويتربَّص بها لصوص رمضان لإبطال مفعولها.

مدرسة وثمرات:

إذا فقه المسلم دينَه، وأَمْعن النظرَ في نصوصه، وحاز وعيًا كافيًا بمقاصد الشريعة، وعاش التجربة الإيمانية بنفسه - عرف أنَّ صيام رمضان ليس موسمًا بين المواسم، ولا مناسبة متميِّزة فحَسْب؛ بل هو مدرسة متكامِلة الأركان والمناهج تُخرِّج الربانيِّين الذين يَصلحون ويُصلحون، يتدرَّبون فيها على تزْكية أنفسهم وإصلاحِ غيرهم؛ لأنَّهم يكونون قد اكتسبوا رصيدًا دسمًا من مقوِّيات الإيمان والأخلاق القلبيَّة والسلوكيَّة الرفيعة التي تؤهِّلهم لتسنُّم مدارج الكمال، وتمثيل الإسلام بجميع شُعَبه.

إنَّه مدرسة تقوية الروح؛ لأنَّه يحرِّر المؤمنَ من سلطان الغرائز وطغيان الشهوات، ويرفعه من دركات الحيوانية إلى المرتقى العالي، إلى عالَم الملائكة ليحدث التوازن في حياته الإيمانية والاجتماعية؛ لذلك كانت دعوة الصَّائم مستجابة حين يُفطر أو حتى يُفطر.

كما أنَّه مدرسة تنمية الإرادة ورفع مستوى الصبر لدى الصائم؛ فيتحمَّل ما لا يمكن أن يتحمَّله غيره بنفسٍ راضية ومعنويات مرتفعة، وليس الامتناع عن الأمور المعتادة في حياة الإنسان بالشيء السَّهل، فكيف بالكفِّ عن الطعام والشراب خاصة في فصل الصيف؛ حيث يطول النَّهار وترتفع الحرارة، ولا تمتدُّ يد الصائم إلى الماء البارد وهو في متناوله ولا رقيب عليه إلاَّ ضميره؟ فيتكوَّن له من ذلك رصيد هائل من الإرادة ليواجه طوال السَّنة تحدِّيات الحياة، كما يخرج من رمضان وهو قادر على تحمُّل الأعباء الجِسام في تقرُّبه إلى الله وفي نشاطه الدنيوي.

ورمضان محطَّة تجريبيَّة للتعريف الميداني - فضلاً عن التأصيل النظري - بنِعَم الله تعالى، التي كثيرًا ما يغفل عنها الإنسان وهو يرفل فيها ويتقلَّب في أعطافها، ولا يعرف أهميتها إلاَّ عند حرمانه منها، فهنا يحسُّ طيلة أيام الشهر بالجوع والعطَش والحرمان الجنسي، وذلك حريٌّ بالتأثير فيه ليكون على شعورٍ مباشر بحالة المحرومين والمعدَمِين في هذه الدنيا، فتتحرَّك فيه نوازع الإنسانية، ويخرج من قَوْقعة الأنانية والطواف بذاته ليتواصل إيجابيًّا بمن هم في حاجة إلى لقمة العيش وشَربة الماء والتحصين بالزواج وحبَّة الدواء، وهذا يعلِّمه الحنوَّ ويحرِّك نفسَه بالبذل والعطاء.

وقد كان نبيُّ الله داود عليه السلام - وهو ملِك مَكَّن الله له تمكينًا عظيمًا في الأرض على رأس حضارة كبيرة وأدوات غير متاحة لغيره - يصوم يومًا ويفطر يومًا، وما ذلك إلاَّ سلوك الأتقياء الأبرار الذين يجنحون إلى عيش الضعفاء حتى لا تحدِّثهم أنفسهم بشيء من الاستغناء والصلف.

وقبل كلِّ هذا فشهر الصيام مَوسم الطاعات والقربات والعبادات الكثيرة المتنوِّعة، إرضاء لله تعالى وحبًّا له ورجاء في عفوه وخشية من عقابه ورغبة في جنَّته، ذلك الجزاء الأوفى الذي تتوق إليه نفوسُ المؤمنين، وهو أسمى أمانيها وأغلى طموحها.

لصوص رمضان:

يتربَّص بالصائمين المخلِصين وشهرِهم المتميِّز لصوص، لا يستهدفون اختلاسَ الأموال؛ وإنَّما سرقة روحانيَّة الشهر لإفراغِه من مقاصده وإهدار الطاقات الكبيرة التي يُفرغها في قلوبِ المؤمنين؛ وذلك بفَتح أبواب الوِزْر بدل الأجر من خلال تحويله إلى مَوسم للَّهو والمادِّيات وأنواع الانحراف.

ويقف على رأس هؤلاء اللصوص أصحابُ معظم الفضائيات ومن يحتكرون الثقافةَ والتوجيه الجماهيري، وكأنهم يعلنون الحربَ على التديُّن عبر الإعلام الفاسد و"السهرات الرمضانية" وحفلاتِ الغناء والرَّقص واللغو، التي تستغرق في أكثر البلاد العربية ليالي الشهر الفضيل كلَّها، حتى يذهب لغوُ الليل بثواب النَّهار ويفقد رمضان محتواه الروحي وبُعده الربَّاني، وللعلمانيَّة العربية المتطرِّفة دور بارز في هذا المسعى، وكأنَّ فيها نزل قول الله تعالى {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، وهي التي تروج بفعل تحكُّمها في القطاع الإعلامي البرامجَ التي تُفسد البيوت والأخلاق والأذواق.

والجدير بالذكر أن ما يُسمى المسلسلات الدينية والتاريخية التي تُبثُّ في هذا الشهر لا تخدم لا الدين ولا الأخلاق؛ لأنَّ معظم من يمثِّلون فيها معروفون بأدوارهم المنحرِفة الفاجرة في أعمالهم الفنِّية المعتادة، فأي مصداقيَّة لهم إذا مثَّلوا الصحابَة والفاتِحين والرموز الإسلامية الكبيرة؟! بل هم يُلقون ظلال الرِّيبة على هؤلاء العظماء من غير شكٍّ.

لا بدَّ إذًا من إنقاذ شهر رمضان من هذا العدوان العلماني السافر المغلَّف بدعاوى الثقافة والترفيه، حتى يبقى كما كان مدرسة متميِّزة متفرِّدة تحفظ الدين والقِيَم والأخلاق.